القاهرة مدينة الألف مئذنة ليلها لا يختلف عن نهارها
مسلات أسوان لا تزال لغزاً محيّراً وفي الأقصر ثلث آثار العالم!
ليس غريبا أن يُطلق على بلاد النيل اسم "أم الدنيا"... فلمصر حضارة عريقة تُعتبر الأقدم في التاريخ البشري. حضارة رائدة في ابتكاراتها وعماراتها وفنونها أذهلت العالم والعلماء بفكرها وعلمها. لقد كانت مصر أول دولة في العالم القديم عرفت مبادئ الكتابة وابتدعت الحروف والعلامات الهيروغليفية، وكان المصريون القدماء حريصين على تدوين تاريخهم وتسجيل الحوادث التي صنعوها وعاشوها، وبهذه الخطوة الحضارية العظيمة انتقلت مصر من عصور ما قبل التاريخ وأصبحت أول دولة في العالم لها تاريخ مكتوب ونظم ثابتة، ولذلك اعتبرت بالمعايير كلها أمّاً للحضارات الإنسانية التي لا تزال آثارها محفوظة حتى يومنا هذا.
زيارة مصر ليست مجرّد سياحة، بل رحلة عبر التاريخ والعصور لآلاف السنين، يغوص فيها المرء في حضارة يخال للحظات أنّها ليست من صنع البشر وإنما آتية من عالم آخر. ولعلّ وجود نهر النيل في مصر ساهم في إنعاش هذه الحضارة وتطويرها، حتى قال هيرودوس "مصر هبة النيل". فالنيل علّم المصري القديم الاستقرار والزراعة والحساب والهندسة والفلك، وساعد فيضان النيل في نقل المسلات والحجارة الضخمة لبناء المعابد.
قبل الإبحار في نهر النيل نحو الجنوب حيث التاريخ الذي لا يزال ينبض بالحياة لا بد من وقفة في الشمال، في العاصمة التي عُرفت تاريخيا بمدينة "الألف مئذنة" لكثرة مساجدها. انها القاهرة، أكثر المدن كثافة سكانية حيث يسكنها زهاء 20 مليون شخص أي أكثر من ربع سكان مصر البالغ عددهم زهاء 78 مليونا حتى كتابة هذا التقرير... إذ كل 20 ثانية يولد طفل في مصر!!
غريب أمر هذه العاصمة التي لا يعرف سكانها النوم البتة، فلولا سواد الليل يعتقد المرء أن ليل القاهرة لا يختلف عن نهارها. الأسواق لا تغلق أبوابها، والشوارع لا تفرغ من المارين. حتى زحمة السير... كما في النهار كذلك في الليل! ونيل القاهرة لا يعرف الملل البتة، فمسامروه لا يفارقونه، فتراهم مجموعات وأفرادا يتمشّون على "الكورنيش" وعلى "الكباري"... قبالة منارة القاهرة التي ترتفع 187 مترا لتشرف على النيل ومدينته.
وليس بعيدا من وسط العاصمة حيث الاكتظاظ السكّاني، تستريح أرواح خوفو وابنه خفرع وحفيده منقرع في ثلاثة أهرامات اعتُبرت من عجائب الدنيا السبع في منطقة الجيزة. فبعد زهاء 5 آلاف عام على بنائها لا تزال هذه الاهرامات تثير تساؤلات الباحثين لجهة بنائها وهندستها. فالهرم الأكبر يزن ستة ملايين و500 ألف طن وهو مكوّن من أحجار تمّ نقلها من جبل المقطّم عبر سفن عبرت النيل، ويراوح وزن الحجر بين 2 و15 طناً.
ومن ابداعات الاهرام، وجود فجوة دائرية صغيرة لا يتجاوز قطرها 20 سم في هرم منقرع. وبعد بحث طويل تمكّن العلماء من اكتشاف سر هذه الفجوة، اذ تبيّن أن أشعة الشمس تدخل من خلالها يوما واحدا في السنة الى قبر الفرعون منقرع، والأعجب أن هذا اليوم يصادف عيد ميلاد الفرعون المذكور!
أمام هذا الابداع البشري العريق ورغم قساوة الحجر الصلب الذي بُنيت به الاهرامات، تنظر الى تمثال أبو الهول(جسد أسد ووجه انسان يمثّل الملك خفرع) القابع امام هرم خفرع فتشعر بالرهبة، هو الحارس الأمين لقبر الفرعون(يبلغ طول التمثال 57 مترا اما ارتفاعه فـ20 مترا).
عبر النيل الى التاريخ القديم
من القاهرة نحو الجنوب الى آخر محافظة قبل الحدود السودانية، محافظة أسوان التي يبلغ عدد سكانها 5 ملايين نسمة وعاصمتها مدينة أسوان، وتبعد عن القاهرة 1200 كلم، وهي تشكّل جزءا مهمّاً من الصعيد حيث الحياة الريفية التقليدية. وتُعتبر السياحة من أهم مواردها نظراً الى كثرة الآثار الموجودة فيها، إضافة الى الغرانيت الوردي الذي يتم تصديره، وهو كان مادة أساسية في بناء المعابد والمسلات في ذلك الوقت. وتشكّل المسلّة الناقصة في أسوان حلاًّ للغز بناء المسلات في ذلك العصر، حيث اكتشف العلماء أن المصريين القدامى كانوا يستخدمون الخشب المبلّل بالمياه داخل شقوق الصخر لصناعة المسلة، ثمّ يتم تمليسها ولاحقا حفر الرسوم عليها.
ومن المعلوم أن المصريين كانوا يستخدمون المسلات لأسباب عدة، منها انّها كانت ميزة فارقة في المعابد ولتحديد الوقت (بسبب الظل) وكوسيلة للاضاءة عبر طلاء رأسها بمادتي الذهب والفضة (وهما لا يندمجان الا بواسطة الالكتروم). وفي مصر حاليا 7 مسلات، اضافة الى عدد آخر أهدته مصر الى دول أجنبية مثل بريطانيا وتركيا وفرنسا. وللمفارقة أن المسلّة في مصر كان يستغرق حفرها في الصخر ونقلها عبر النيل الى مكان المعبد زهاء 7 أشهر، في حين أن المسلّة التي قدّمها محمد علي باشا الى فرنسا عام 1836 استغرق رفعها من المهندسين الفرنسيين 3 أعوام!
الابحار في نيل أسوان متعة في ذاته، فعلى ضفتي النيل يحاكي اخضرار النخيل سمرة الصحراء، ويتسابق أطفال الصعيد للتراشق بمياه النيل والتلويح للسيّاح الذين يبحرون في بواخر سياحية في النيل. ولمشهد الغروب رونق خاص يمتّع النظر ويدغدغ الشعور بنسيم يكون تارة باردا وطورا دافئا.
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]
المسلّة الناقصة في أسوان.
أمّا كنوز أسوان التاريخية فتدلّ على عمق الحضارة المصرية التي تمّ تخليدها بالكتابات والرسوم على جدران المعابد الضخمة ببنائها والمذهلة بجمالها وهندستها. فمن معبد "فيلة" الذي غرق تحت مياه النيل خمسين عاما وأعادت نقله منظّمة "الاونيسكو" الى اليابسة خلال ثمانية أعوام... الى معبدي "أدفو" و"كومومبو"، تاريخ حافل بروايات الآلهة وبطولات الفراعنة. وفي كل معبد غرفة تتصّل بالنيل لإبراز عمق ارتباط النيل بحياة المصري القديم، الذي تقول روايات، أنّ إحدى خطاياه التي كان يُحاسب عليها في الآخرة هي تلويثه مياه النيل!
معبد فيلة في أسوان
وفي العودة الى زماننا الحاضر، يمكن مشاهدة مساحة الفقر الشاسعة التي تعيشها هذه المنطقة بشكل يثير تساؤلات كيف يمكن هذه الحضارة التي يزيد عمرها على خمسة آلاف عام ان يعيش أحفادها في القرن الواحد والعشرين هذا النوع من الفقر؟ فقطاع السياحة المتطوّر في مصر محصور بشركات سياحية محدودة، وكل من لا يعمل في هذا القطاع يعتبر من الطبقة الفقيرة، بل الفقيرة جدا....
وفي هذا الاطار يقول الدكتور أحمد بعلبكي الباحث الاجتماعي-الاقتصادي والخبير الاستشاري في التنمية الريفية والمحلية أن ثمة فجوة بين الحاضر والماضي في الريف المصري، يقول: "فنحن إزاء ماض عريق وحاضر فقير. هذه الحضارة التي لم نصل بعد في قراءتها وتنقيب مدلولاتها ومنقوشاتها، محوطة بأعوام من الفقر. فحتى الفقر في هذه المنطقة سياحة". بعلبكي الذي أبدى اعجابه بطريقة تخليد المصريين القدماء لتاريخهم وحضارتهم أشاد بدماثة أحفاد الفراعنة وحسن استقبالهم وطريقة تعاملهم مع الناسّ وخفّة دمهم، الا أنّه سجّل عتبه على صناعة السينما المصرية الرائدة عربياً وعالمياً، التي لا تتطرّق الى الحضارة المصرية القديمة. وختم قائلا "السياحة في مصر هي سياحة ثقافية ممتعة".
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]
معبد أدفو.
الأقصر... ذاكرة مصر
الرحلة عبر النيل مستمرة شمالا من أسوان الى الأقصر (481 كلم)، وسط البواخر السياحية والمراكب الشراعية التي تجوب النهر طولا وعرضا... وقبالة مدينة "أسنا" لا بدّ من اجتياز "الهويس"، وهو نوع من السد لتعديل مستوى المياه لتمكين البواخر من اجتياز النهر اضافة الى توليد الطاقة الكهربائية، حيث تنخفض البواخر أكثر من عشرين متراً ويستغرق العبور زهاء نصف ساعة، والعملية معاكسة طبعا بالنسبة للبواخر القادمة من الأقصر الى أسوان.
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]
تُعتبر مدينة الأقصر من أشهر المدن الأثرية في العالم، ويُقال أنها تحوي زهاء ثلث آثار العالم، فهي تضم أكثر من 800 منطقة ومزار أثري تروي فصولا كثيرة من تاريخ الحضارة المصرية، وهي تجذب الشريحة الأكبر من السياحة الثقافية الوافدة الى مصر، لذلك فقطاع السياحة الى جانب زراعة القصب السكّري يعتبران الموردين الاقتصاديين الرئيسيين فيها. واللافت في مدينة الأقصر أنّها تجمع بين الماضي والحاضر، فجمالها الداخلي المتحضّر (لناحية شوارعها ونظافتها) يحاكي آثارها ومعابدها الكثيرة. وبهدف تفعيل دور السياحة فيها أكثر، تعتزم الدولة جعلها متحفا مفتوحا من طريق اخراج السكان الى ضواحيها، علما أنّها كانت منعت تشييد المنازل على الطرق المؤدّية الى الأماكن الأثرية التي تنقسم الى قسمين: الأول في البر الشرقي (من النيل) وأشهره معبدا الأقصر (الذي كان مركزا لعبادة عدد من الديانات منذ عهد الفراعنة حتى العهدين المسيحي والاسلامي) والكرنك (الذي يعتبر أعظم وأكبر معبد في العالم لأنّه يضم 22 معبدا في الوقت عينه). والثاني في البر الغربي وأشهره وادي الملوك والملكات ومعبد الملكة حتشبسوت (وهي أول ملكة حكمت مصر، وكانت تتّخذ مظهرا يشبه الرجال، وعُرف عنها أنّها حكمت بيد من حديد).
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]
معبد الاقصر
يضم وادي الملوك مقابر لـ 62 فرعونا مصريا، تمّ اكتشاف آخرها عام 1922، وهي مقبرة الفرعون " توت عنخ أمون"، الوحيدة التي وُجدت فيها كل الآثار والكنوز الى جانب المومياء كما تركها المصريون القدامى، في حين تمّ سلب معظم المقابر الاخرى. وكنوز الفرعون "أمون" موجودة كلها اليوم في المتحف المصري في القاهرة، وهي آية في الجمال والروعة وتستحق التقدير لهذا الشعب الخلاق الذي كان يتمتّع بحسّ فني بارز وبعقيدة فلسفية جعلت حياته تتمحور حول الدين والآخرة أكثر منها حول الحياة الدنيوية. ويختلف حجم المقابر باختلاف عمر الملك الذي كان يباشر بناء قبره حين يتسلّم الحكم، وتستمر الأعمال حتى موته.
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]
معبد الملكة "حتشبسوت".
واللافت في وادي الملوك أنّ المقابر نُحتت في الجبل على شكل غرف وسراديب تؤدّي الى حجرة الدفن، وتتميّز بروعة الرسوم والنقوش الملوّنة على جدرانها وسقوفها. ومعلوم أنّ هذه النقوش الهيروغليفية عبارة عن تعليمات وتراتيل يتلوها الملك أو الفرعون أمام الآلهة وتعاويذ لتحرسه في ممرّه لما بعد الحياة، اضافة الى أنّها تروي سيرة الملك وبطولاته العسكرية وحياته الشخصية. وأبرز ما يميّز مقابر وادي الملوك أنّها مكوّنة من مادة الصخر الجيري الذي يحفظ البرودة وهي عامل أساسي في الحفاظ على المومياءات والرسوم لآلاف الأعوام، اضافة الى أنّه مادة سهلة للحفر والنقش، في حين أن الجبال الخارجية مكوّنة من مادة "الألاباستر"، (شبيهة بمادتي الرخام والمرمر) التي كان يستخدمها المصريون القدامى في صناعة الأواني والخزفيات، وهي تدخل اليوم في مجال الصناعة السياحية...
***
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]
أخيراً، قد لا تعبّر الكلمات بدقّة عن روعة مقابر وادي الملوك وجمالها وعظمتها وتبقى الصورة خير شاهد، "....
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]
مسلات أسوان لا تزال لغزاً محيّراً وفي الأقصر ثلث آثار العالم!
ليس غريبا أن يُطلق على بلاد النيل اسم "أم الدنيا"... فلمصر حضارة عريقة تُعتبر الأقدم في التاريخ البشري. حضارة رائدة في ابتكاراتها وعماراتها وفنونها أذهلت العالم والعلماء بفكرها وعلمها. لقد كانت مصر أول دولة في العالم القديم عرفت مبادئ الكتابة وابتدعت الحروف والعلامات الهيروغليفية، وكان المصريون القدماء حريصين على تدوين تاريخهم وتسجيل الحوادث التي صنعوها وعاشوها، وبهذه الخطوة الحضارية العظيمة انتقلت مصر من عصور ما قبل التاريخ وأصبحت أول دولة في العالم لها تاريخ مكتوب ونظم ثابتة، ولذلك اعتبرت بالمعايير كلها أمّاً للحضارات الإنسانية التي لا تزال آثارها محفوظة حتى يومنا هذا.
زيارة مصر ليست مجرّد سياحة، بل رحلة عبر التاريخ والعصور لآلاف السنين، يغوص فيها المرء في حضارة يخال للحظات أنّها ليست من صنع البشر وإنما آتية من عالم آخر. ولعلّ وجود نهر النيل في مصر ساهم في إنعاش هذه الحضارة وتطويرها، حتى قال هيرودوس "مصر هبة النيل". فالنيل علّم المصري القديم الاستقرار والزراعة والحساب والهندسة والفلك، وساعد فيضان النيل في نقل المسلات والحجارة الضخمة لبناء المعابد.
قبل الإبحار في نهر النيل نحو الجنوب حيث التاريخ الذي لا يزال ينبض بالحياة لا بد من وقفة في الشمال، في العاصمة التي عُرفت تاريخيا بمدينة "الألف مئذنة" لكثرة مساجدها. انها القاهرة، أكثر المدن كثافة سكانية حيث يسكنها زهاء 20 مليون شخص أي أكثر من ربع سكان مصر البالغ عددهم زهاء 78 مليونا حتى كتابة هذا التقرير... إذ كل 20 ثانية يولد طفل في مصر!!
غريب أمر هذه العاصمة التي لا يعرف سكانها النوم البتة، فلولا سواد الليل يعتقد المرء أن ليل القاهرة لا يختلف عن نهارها. الأسواق لا تغلق أبوابها، والشوارع لا تفرغ من المارين. حتى زحمة السير... كما في النهار كذلك في الليل! ونيل القاهرة لا يعرف الملل البتة، فمسامروه لا يفارقونه، فتراهم مجموعات وأفرادا يتمشّون على "الكورنيش" وعلى "الكباري"... قبالة منارة القاهرة التي ترتفع 187 مترا لتشرف على النيل ومدينته.
وليس بعيدا من وسط العاصمة حيث الاكتظاظ السكّاني، تستريح أرواح خوفو وابنه خفرع وحفيده منقرع في ثلاثة أهرامات اعتُبرت من عجائب الدنيا السبع في منطقة الجيزة. فبعد زهاء 5 آلاف عام على بنائها لا تزال هذه الاهرامات تثير تساؤلات الباحثين لجهة بنائها وهندستها. فالهرم الأكبر يزن ستة ملايين و500 ألف طن وهو مكوّن من أحجار تمّ نقلها من جبل المقطّم عبر سفن عبرت النيل، ويراوح وزن الحجر بين 2 و15 طناً.
ومن ابداعات الاهرام، وجود فجوة دائرية صغيرة لا يتجاوز قطرها 20 سم في هرم منقرع. وبعد بحث طويل تمكّن العلماء من اكتشاف سر هذه الفجوة، اذ تبيّن أن أشعة الشمس تدخل من خلالها يوما واحدا في السنة الى قبر الفرعون منقرع، والأعجب أن هذا اليوم يصادف عيد ميلاد الفرعون المذكور!
أمام هذا الابداع البشري العريق ورغم قساوة الحجر الصلب الذي بُنيت به الاهرامات، تنظر الى تمثال أبو الهول(جسد أسد ووجه انسان يمثّل الملك خفرع) القابع امام هرم خفرع فتشعر بالرهبة، هو الحارس الأمين لقبر الفرعون(يبلغ طول التمثال 57 مترا اما ارتفاعه فـ20 مترا).
عبر النيل الى التاريخ القديم
من القاهرة نحو الجنوب الى آخر محافظة قبل الحدود السودانية، محافظة أسوان التي يبلغ عدد سكانها 5 ملايين نسمة وعاصمتها مدينة أسوان، وتبعد عن القاهرة 1200 كلم، وهي تشكّل جزءا مهمّاً من الصعيد حيث الحياة الريفية التقليدية. وتُعتبر السياحة من أهم مواردها نظراً الى كثرة الآثار الموجودة فيها، إضافة الى الغرانيت الوردي الذي يتم تصديره، وهو كان مادة أساسية في بناء المعابد والمسلات في ذلك الوقت. وتشكّل المسلّة الناقصة في أسوان حلاًّ للغز بناء المسلات في ذلك العصر، حيث اكتشف العلماء أن المصريين القدامى كانوا يستخدمون الخشب المبلّل بالمياه داخل شقوق الصخر لصناعة المسلة، ثمّ يتم تمليسها ولاحقا حفر الرسوم عليها.
ومن المعلوم أن المصريين كانوا يستخدمون المسلات لأسباب عدة، منها انّها كانت ميزة فارقة في المعابد ولتحديد الوقت (بسبب الظل) وكوسيلة للاضاءة عبر طلاء رأسها بمادتي الذهب والفضة (وهما لا يندمجان الا بواسطة الالكتروم). وفي مصر حاليا 7 مسلات، اضافة الى عدد آخر أهدته مصر الى دول أجنبية مثل بريطانيا وتركيا وفرنسا. وللمفارقة أن المسلّة في مصر كان يستغرق حفرها في الصخر ونقلها عبر النيل الى مكان المعبد زهاء 7 أشهر، في حين أن المسلّة التي قدّمها محمد علي باشا الى فرنسا عام 1836 استغرق رفعها من المهندسين الفرنسيين 3 أعوام!
الابحار في نيل أسوان متعة في ذاته، فعلى ضفتي النيل يحاكي اخضرار النخيل سمرة الصحراء، ويتسابق أطفال الصعيد للتراشق بمياه النيل والتلويح للسيّاح الذين يبحرون في بواخر سياحية في النيل. ولمشهد الغروب رونق خاص يمتّع النظر ويدغدغ الشعور بنسيم يكون تارة باردا وطورا دافئا.
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]
المسلّة الناقصة في أسوان.
أمّا كنوز أسوان التاريخية فتدلّ على عمق الحضارة المصرية التي تمّ تخليدها بالكتابات والرسوم على جدران المعابد الضخمة ببنائها والمذهلة بجمالها وهندستها. فمن معبد "فيلة" الذي غرق تحت مياه النيل خمسين عاما وأعادت نقله منظّمة "الاونيسكو" الى اليابسة خلال ثمانية أعوام... الى معبدي "أدفو" و"كومومبو"، تاريخ حافل بروايات الآلهة وبطولات الفراعنة. وفي كل معبد غرفة تتصّل بالنيل لإبراز عمق ارتباط النيل بحياة المصري القديم، الذي تقول روايات، أنّ إحدى خطاياه التي كان يُحاسب عليها في الآخرة هي تلويثه مياه النيل!
معبد فيلة في أسوان
وفي العودة الى زماننا الحاضر، يمكن مشاهدة مساحة الفقر الشاسعة التي تعيشها هذه المنطقة بشكل يثير تساؤلات كيف يمكن هذه الحضارة التي يزيد عمرها على خمسة آلاف عام ان يعيش أحفادها في القرن الواحد والعشرين هذا النوع من الفقر؟ فقطاع السياحة المتطوّر في مصر محصور بشركات سياحية محدودة، وكل من لا يعمل في هذا القطاع يعتبر من الطبقة الفقيرة، بل الفقيرة جدا....
وفي هذا الاطار يقول الدكتور أحمد بعلبكي الباحث الاجتماعي-الاقتصادي والخبير الاستشاري في التنمية الريفية والمحلية أن ثمة فجوة بين الحاضر والماضي في الريف المصري، يقول: "فنحن إزاء ماض عريق وحاضر فقير. هذه الحضارة التي لم نصل بعد في قراءتها وتنقيب مدلولاتها ومنقوشاتها، محوطة بأعوام من الفقر. فحتى الفقر في هذه المنطقة سياحة". بعلبكي الذي أبدى اعجابه بطريقة تخليد المصريين القدماء لتاريخهم وحضارتهم أشاد بدماثة أحفاد الفراعنة وحسن استقبالهم وطريقة تعاملهم مع الناسّ وخفّة دمهم، الا أنّه سجّل عتبه على صناعة السينما المصرية الرائدة عربياً وعالمياً، التي لا تتطرّق الى الحضارة المصرية القديمة. وختم قائلا "السياحة في مصر هي سياحة ثقافية ممتعة".
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]
معبد أدفو.
الأقصر... ذاكرة مصر
الرحلة عبر النيل مستمرة شمالا من أسوان الى الأقصر (481 كلم)، وسط البواخر السياحية والمراكب الشراعية التي تجوب النهر طولا وعرضا... وقبالة مدينة "أسنا" لا بدّ من اجتياز "الهويس"، وهو نوع من السد لتعديل مستوى المياه لتمكين البواخر من اجتياز النهر اضافة الى توليد الطاقة الكهربائية، حيث تنخفض البواخر أكثر من عشرين متراً ويستغرق العبور زهاء نصف ساعة، والعملية معاكسة طبعا بالنسبة للبواخر القادمة من الأقصر الى أسوان.
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]
تُعتبر مدينة الأقصر من أشهر المدن الأثرية في العالم، ويُقال أنها تحوي زهاء ثلث آثار العالم، فهي تضم أكثر من 800 منطقة ومزار أثري تروي فصولا كثيرة من تاريخ الحضارة المصرية، وهي تجذب الشريحة الأكبر من السياحة الثقافية الوافدة الى مصر، لذلك فقطاع السياحة الى جانب زراعة القصب السكّري يعتبران الموردين الاقتصاديين الرئيسيين فيها. واللافت في مدينة الأقصر أنّها تجمع بين الماضي والحاضر، فجمالها الداخلي المتحضّر (لناحية شوارعها ونظافتها) يحاكي آثارها ومعابدها الكثيرة. وبهدف تفعيل دور السياحة فيها أكثر، تعتزم الدولة جعلها متحفا مفتوحا من طريق اخراج السكان الى ضواحيها، علما أنّها كانت منعت تشييد المنازل على الطرق المؤدّية الى الأماكن الأثرية التي تنقسم الى قسمين: الأول في البر الشرقي (من النيل) وأشهره معبدا الأقصر (الذي كان مركزا لعبادة عدد من الديانات منذ عهد الفراعنة حتى العهدين المسيحي والاسلامي) والكرنك (الذي يعتبر أعظم وأكبر معبد في العالم لأنّه يضم 22 معبدا في الوقت عينه). والثاني في البر الغربي وأشهره وادي الملوك والملكات ومعبد الملكة حتشبسوت (وهي أول ملكة حكمت مصر، وكانت تتّخذ مظهرا يشبه الرجال، وعُرف عنها أنّها حكمت بيد من حديد).
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]
معبد الاقصر
يضم وادي الملوك مقابر لـ 62 فرعونا مصريا، تمّ اكتشاف آخرها عام 1922، وهي مقبرة الفرعون " توت عنخ أمون"، الوحيدة التي وُجدت فيها كل الآثار والكنوز الى جانب المومياء كما تركها المصريون القدامى، في حين تمّ سلب معظم المقابر الاخرى. وكنوز الفرعون "أمون" موجودة كلها اليوم في المتحف المصري في القاهرة، وهي آية في الجمال والروعة وتستحق التقدير لهذا الشعب الخلاق الذي كان يتمتّع بحسّ فني بارز وبعقيدة فلسفية جعلت حياته تتمحور حول الدين والآخرة أكثر منها حول الحياة الدنيوية. ويختلف حجم المقابر باختلاف عمر الملك الذي كان يباشر بناء قبره حين يتسلّم الحكم، وتستمر الأعمال حتى موته.
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]
معبد الملكة "حتشبسوت".
واللافت في وادي الملوك أنّ المقابر نُحتت في الجبل على شكل غرف وسراديب تؤدّي الى حجرة الدفن، وتتميّز بروعة الرسوم والنقوش الملوّنة على جدرانها وسقوفها. ومعلوم أنّ هذه النقوش الهيروغليفية عبارة عن تعليمات وتراتيل يتلوها الملك أو الفرعون أمام الآلهة وتعاويذ لتحرسه في ممرّه لما بعد الحياة، اضافة الى أنّها تروي سيرة الملك وبطولاته العسكرية وحياته الشخصية. وأبرز ما يميّز مقابر وادي الملوك أنّها مكوّنة من مادة الصخر الجيري الذي يحفظ البرودة وهي عامل أساسي في الحفاظ على المومياءات والرسوم لآلاف الأعوام، اضافة الى أنّه مادة سهلة للحفر والنقش، في حين أن الجبال الخارجية مكوّنة من مادة "الألاباستر"، (شبيهة بمادتي الرخام والمرمر) التي كان يستخدمها المصريون القدامى في صناعة الأواني والخزفيات، وهي تدخل اليوم في مجال الصناعة السياحية...
***
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]
أخيراً، قد لا تعبّر الكلمات بدقّة عن روعة مقابر وادي الملوك وجمالها وعظمتها وتبقى الصورة خير شاهد، "....
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذه الصورة]